أنا "المحذوف"
عمر الجفّال*
مُذْ يومِ ولادتي،
أنا المقصود.
طُهْر الحليب
انحناءةُ أُمّي، بسملُة جدّتي..
إغفاءةُ عمَّتي بيدٍ حجريةٍ سوداء
وأنا المقصود
المحذوفُ من الوارد
المنقولُ لقاموسِ المنفى
المحشورُ ببراميلِ الالتحاق.
أنا،
قطيعُ ذئابٍ خائرة
تتربَّصُ الفريسةُ بعينٍ،
والعينُ الأخرى.. تتطلعُ للذنب.
................
تتقاذفُني الأيدي،
مثلَ جمرةِ بدويٍّ آثرتْ أن تُطفئأَ بماءٍ عكر.
أنا..
سكّينٌ مهترئة،
يأخذُ بها "المعدان" ثأرَهُمْ،
ثمَّ..
يودِعونَها الأرض.
مُهملاً في حواشي الأضداد.
أُلاحِقَ كبوتي،
أُعانقُها، أُضاجعُها،
حتى يسيل الدَّمُ على فخذيها
ألعقُهُ مثلَ مِسْخٍ وَدودٍ
وأمشي مسرعاً.
أنا روتينٌ يلبسُ سترة..
وعُمري سيجارةٌ عراقيةٌ يُشفْطُ منها صعلوك.
أبحثُ عن ضوء
منذُ ولادتي لم أبصرْهُ..
كانَ غربالاً أعورَ فوقَ سمائنا
يضيءُ لجانبٍ واحد،
وأظلُّ محكوماً بزِنا الليل.
سأشربُ نخباً
ِلولادةِ حزنٍ جديد،..
فيصبحُ لديَّ الكثير:
وطنٌ، منفىً، حربٌ..... إلخ..
(نبتَ عُشْبٌ طويلٌ على وجوهِنا،
ياه.. كَمْ مضى على انعزالِنا).
أتركُ عزلتي ممدَّدةً على سريرٍ، فاردةً شَعْرَها البنّيَّ على مخدتي، وعطرُها النرجسيُّ على ملاءتي.. وشعرةٌ شبقيةٌ طارتْ من فروةِ رأسِها وحطَّتْ في مطار العراء.
أيتها العزلة..
افرُكي فانوسَكِ السِّحريَّ بهزيمتي.
لستُ مقصوداً، ولستُ مُنكِراً، ولا جاحداً يتنكَّر لِعفّةٍ جنوبية، ما أنا إلا أنا، وما أوراقي المستفزَّة على "مشاحيفِ الأهوار" إلا أوراقٌ خارجةٌ عن قانونِ الحياةِ مُستَلَبةُ الحقِّ في البوحِ عن مكنوناتِها، وعن إثارةِ القلمِ لغريزتِها. لستُ سوى رجلٍ جنوبيٍّ تحضَّرَ وتَصعلَكَ في منافي بغداد، ارتشفَ العَرَقَ المغشوشَ من أزقّةِ "البتاويين" العفويّة، غبيةِ البناء، المتكئةِ منازلُها الواحدَ على الآخر، وإذا انتعلَ الجوُّ رياحَهُ، ذابتْ آجرّاتُها لِشدّةِ قساوةِ الهواء..
لستُ بفلاحٍ يزني بأرضِه، ويُذيبُ شَرَفَ عشيرتَهِ على الرمال، ولا هواءً أَحْوَل، يكسرُ الأغصانَ حينَ يَمرُّ ذاهباً إلى الشّمال، ولا عضواً يشهدُ الانكساراتِ كلَّ ليلةٍ تحتَ سبعةٍ ريفية، ولا إقطاعياً ينتهزُ فَضَّ بكارةِ الأرض، وينتهي بِرَشِّ نبيذٍ مستورَدٍ على نَهدِ (الرازقي).
أنا، وطنٌ فوضوّيٌّ لا يملكُ خمسَ حواس، يداعبُ جمرَ السَّواتر، يزرعُ القمحَ لِيُطعِمَ جوعَ الأرض:
أؤثثُ نوراً لأرضي
أزرعُ طفلاً زنجياً
ينطقُ ظلاماً في قُرْصِ الشمس
وأتزوجُ:
عزلةً، بندقيةً، ناياً بدوياً
وأنتظرُ بريدَ القنابل،
وأرقبُ دوياً عَجِلاً،
يوقظُ حَفّارَ القبورِ من سُباتِه
وبناتُهُ يَخِطنَ أكفاناً مُلَوَّثةً ضاجعنَ عليها الفلاحين
وتَهُمُّ زوجتُه،
لِغَسْلِ دكّةِ العبور.
أيها الليلُ المتثاقل:
اركبْ مرايا البوح، وأَرِحْ قلقكَ على كتفِ الشمس.. واذرفْ لنا دمعاً من نبيذٍ.. لنثملَ حدَّ الـ(لا).
أيتها السماء:
تبوَّلي.. لتمحي تواريخَ خساراتِنا وانكساراتِنا في آنٍ واحد.
نركضُ للخلف،
نرمي للأمامِ رهاناً خاسراً.
..................
(بياضٌ شاسعٌ نرديّ
خالٍ من الأرقام).
خلفَ سوقٍ كبيرٍ مُتخَمٍ بأصواتِ النُّسوةِ والرجال، كان رجلٌ طويلٌ تصلُ هامتُهُ السماء، بقبعةٍ مثقوبةٍ تذرفُ نذالة، يتكئُ على برميلٍ، مسجونٌ تحتَهُ نورس. قبلَ أن يرميَ النَّرْد، يومئُ بنظرةٍ قبيحةٍ مثقلةٍ بالنذالةِ بأن نرمي رهاناتِنا.. تُرمى الساعاتُ/الأحزمةُ/الضابطُ يرمي خريطةَ المعركة/ الصعلوكُ يرمي قنينةَ عَرَق/الموظّفُ يبطحُ وظيفتَه/وأنا أراهنُ بأبخسِ شيءٍ عندي -حياتي-.
الكلُّ يخسرُ عَدَايَ.
أربحُ ساعةً:
أوَّقتُ بها قصيدتي.
أحزمةً:
أربطُ بها جوعي.
قنينةَ عَرَق:
أُثمِلُ بها مسوخَ وطني.
الوظيفةُ وخريطةُ المعركةِ لِرامي النَّرْد.